القدرة علي الإنتقال من الدرجة الأدنى في باطن الأرض إلي ملامسة السماء هو شئ من السحر، طيفٌ من نسيم زمن المعجزات قد عاد إلي ملاعب كرة القدم بعدما حلَ وإرتحل في شتى بقاع الأرض ليسكن مهد كرة القدم لبضعة أعوام عبر براين كلوف.
خليط من الغرور والنجاح يجعل مدرب كرة القدم شخصًا صعب المِراس، وفي حالتنا هذه عليك أن تُضيف الكثير والكثير من العبقرية الكروية نادرة التكرار، هذه هي إحداثيات مدرب المعجزات براين كلوف.
الخطوات الأولى مع كرة القدم
” نهر الترينت رائع جدًأ؟ رُبما لأننى كنت أسير بجواره لمدة 18 عامًا” براين كلوف
كلوف كان مُهاجمًا في نادي مدينته التى نشأ بها وربما هذا هو الشئ المنطقى الوحيد في حياته، حيث لعب لـصالح نادى ميدليزبره في الفترة بين عامى 1955 و 1961 أصبح فيها الهداف التاريخى للنادي برصيد 197 هدفًا من 213 مشاركة، موهبة فذة لمهاجم هدَاف للغاية، والغريب أن كل هذا وهو فى دورى الدرجة الثانية الإنجليزي.
بعدها حط الرحال في سندرلاند ليسجل 54 هدفًا في 61 مباراة كانت جميعها أيضًا في دورى الدرجة الثانية بإستثناء هدفٍ واحد، وكأنما كان هذا الهدف إيذانًا بإنتهاء مسيرة المهاجم الجيد براين بسبب الرباط الصليبى ويأتى الدور على ماهو أهم من هز شباك الخصوم، ميلاد براين كلوف أفضل مدرب إنجليزى علي مرَ العصور.
بعد الإعتزال بـسنة واحدة فقط قرر كلوف أن يبدأ مسيرته التدريبية رفقة صديقه القديم بيتر تايلور – تذكروا هذا الإسم جيدًا – عبر بوابة فريق هارتبولز يونايتد الذى كان يقبع في دورى الدرجة الرابعة لينجح في الحفاظ علي توازن الفريق بعدما كان مهددًا بالإستبعاد من المسابقات الرسمية، ويصبح كلوف صاحب الـ 30 عامًأ حينها أصغر مدرب في الدورى.

ديربى كاونتى… من باطن الأرض إلي قمة السماء
” أنا لم أكن قادرًأ علي أن أصبح مدربًأ ناجحًا بدون بيتر تايلور، كنت أنا نافذة المحل وكان هو البضاعة الجيدة ” هكذا وصف براين كلوف صديقه بيتر تايلور في سيرته الذاتيه، وهذه الجملة تحديدًا كانت طبيعة عمل الثنائى كما سنرى لاحقًا.
تولى كلوف وصديقه بيتر تايلور تدريب ديربى كاونتى الذى يقبع في دورى الدرجة الثانية الإنجليزى، النادى لم يملك أدنى مقومات النجاح في ذلك الوقت لا علي مستوى اللاعبين أو الإدارة، فقرر كلوف بعد إنقضاء أول مواسمه مع الفريق تسريح 11 لاعبًا ليأتى الدور علي بيتر تايلور.
بيتر تايلور كان مساعدًا لبراين كلوف ولكن ليس بالمعني التقليدى، كان الثنائى بمثابة الإدارة الرياضية لأى فريقٍ يقومون بالعمل به، كلوف يحدد مطالبه والإمكانيات التى يحتاجها الفريق ليقوم بيتر تايلور بإستقطاب المواهب التى يحتاجها كلوف حسب الميزانية المُحددة للفريق، الإثنان كانا مُكلمان لبعضهما، كلوف داخل الملعب وبيتر تايلور خارجه.
سيطرة الثنائى علي ديربي كاونتى لم تشمل فقط طرد 11 لاعبًا من النادى بل كشَاف اللاعبين وعامل العُشب وإثنتين من الموظفات والسبب؟ كانتا يضحكان بعد هزيمة ديربى في أحد المباريات، ” كل فرد هنا عليه أن يُؤمن أننا سنصعد للدورى الإنجليزي الممتاز، إنه ليس خيارًا “.
وبالفعل نجح ديربى كاونتى في الفوز بدورى الدرجة الثانية برصيد 63 نقطة حيث لم يخسر في 22 مباراة متتالية ليصعد الفريق إلي دورى الدرجة الأولى الإنجليزى موسم 1970 ” البريميرليج حاليًا” ، وأنهى ديربى أول مواسمه في دورى الدرجة الأولى في المركز الرابع ليُصبح أفضل مركز لهم خلال 20 عامًا ولكن لم يستطع النادى المُشاركة في البطولة الأوروبية بسبب الحالة المادية السئية للنادى.

دون ريفي.. العدو اللدود
” لن أقول بأنني الأفضل، ولكنني سأؤكد أنني الأول دائماً، على القمة ” براين كلوف.
أثناء تواجد كلوف في دورى الدرجة الثانية أوقعت قرعة الكأس في أحد الأعوام بطل إنجلترا ليدز يونايتد بقيادة المدرب القدير دون ريفى في مواجهة ديربى كاونتى، الأمر الذى إستعدى كلوف للإحتفال بهذه المناسبة مع عائلته، إنجلترا كلها ستشاهدنى وهو ما أريده تمامًا.
ولكن تأتى الرياح لما لا تشتهى السُفن، هُزم براين كلوف بهدفين مقابل هدف في ميدانه لكن الفريق لم يكن يستحق الهزيمة من وجهة نظر كلوف، والأسوأ من ذلك أن دون ريفى تجاهل مصافحة كلوف تمامًا بعد المباراة ليُصبح هدف براين كلوف هو إزاحة دون ريفى عن عرش إنجلترا وهو ما حدث في موسم 1972.
دخل كلوف موسمه الثالث مع ديربى بالكثير من الثقة تقدم ديربى بخطوات ثابتة نحو قمة الترتيب وسط منافسة شرسة من ليدز يونايتد وليفربول، حيث فاز علي ليفربول وتصدر ترتيب المسابقة في الجولة الأخيرة بفارق نقطة واحدة، ولكن مع تبقى مباراة واحدة مؤجلة لكل منهما وكان على براين الإنتظار.
أمر كلوف أن يتم أخذ اللاعبين في إجازة صيفية إلي مدينة مايوركا الإسبانية بينما ذهب هو للإستجمام في مدينة صقلية حتى ينزع التوتر عن اللاعبين حتي أتت الأخبار السارة، ليدز يونايتد يخسر وليفربول يتعادل، ديربى كاونتى بطل إنجلترا لأول مرة في تاريخ النادى الذي يمتد لـ 88 عامًأ حينها، ليلة لن ينساها جمهور ديربى وستتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل إلي آخر الزمان.
في الموسم التالى وصل الفريق إلي نصف نهائى البطولة الأوروبية أمام يوفينتوس ولكن قبل ذلك كانت هناك مباراة ضد ليدز يونايتد ومُدربهم دون ريفى وقد توَسل رئيس النادى لـ براين كلوف أن يشارك في اللقاء باللاعبين البُدلاء نظرًا لعدم أهمية اللقاء من الناحية الرقمية وهو ما رفضه كلوف مما أدى إلي إصابة أبرز لاعيبه وهو ما أدى إلي خسارته أمام يوفينتوس بنتيجة 3/1 لتكون هذه بداية النهاية في ديربى.
بدأت الصدامات بين كلوف وإدارة فريقه بل وأيضًا مع المشجعين الذين إنتقدهم كلوف بعد مباراة ليفربول التى فاز فيها ديربى بهدفين لهدف، ” جمهورنا بدأ بالهتاف عندما تقدمنا بالنتيجة فقط، كنت أريد الغناء عندما كُنا مُتأخرين “.
وإنتقلت الصدامات أيضًا إلي وسائل الإعلام الذين وصفهم كلوف بـ ” الأوغاد الغشاشين ” ورفض الحديث إليهم حتى تمت إقالته بعدما وصف إدارة فريق بأنها إدارة لا تعرف شيئًا في كرة القدم.

الإنتقال إلي الغريم التقليدى
لم تتوقف الأحداث المُثيرة عند هذا الحد، في يوليو 1974 قرر دون ريفى ترك ليدز من أجل تدريب المُنتخب الإنجليزي، لتقوم إدارة ليدز بإستقدام المدرب الشاب ولكن للمرة الأولى بدون بيتر تايلور، حيث رفض الأخير أسلوب لعب نادى ليدز وبقى في الجنوب.
لم يستطع كلوف إخفاء كُرهه لأسلوب ليدز هو الآخر، حيث عبر عن ذلك في الكثير من المناسبات أثناء تواجده في ديربى ولكن أول لقاء له مع لاعبيه الجدد كان أسوأ بكثير من المتوقع عندما هاجم اللاعبين وطلب منهم إلقاء كل جوائزهم القديمة.
” يمكنكم أن تُلقوا بكافة الميداليات التي حصلتم عليها في سلة القمامة، لأنكم لم تفوزوا بها بشكل عادل ” .
بالطبع لم يستمر كلوف طويلًا مع ليدز حيث بقى علي رأس الإدارة الفنية لـ 44 يومًأ فقط حتى تمت إقالته بعدما قدم اللاعبون طلبًا بتغيير المدُرب الذى كان لديه تحفظ شديد علي طريقة لعبهم، ولكن المُثير هنا ليست الإقاله ولكن ما حدث بعدها مباشرة.
في مقابلة تلفزيونيه هي الأشهر في تاريخ كرة القدم الإنجليزية إستضاف أوستن ميتشل كلًا من دون ريفى مدرب إنجلترا وبريان كلوف مدرب ليدز السابق بعد إقالته مباشرة، المُقابلة شهدت تراشقًا وإتهامات قوية بين المُدربين ومن أهم ما قاله كلوف لـدون ريفى ” لنرى أين سيكون كلٌ منا بعد 5 سنوات ” وهو ما كان صادقًا به حقًأ.
نوتنجهام فورست.. المعجزة تتحقق
” روما لم يتم بناؤها في يوم واحد؟ ربما لأنى لم أكن المسئول ” براين كلوف
ما يُمثله براين كلوف لـجمهور نوتنجهام فورست يُمكن تشبيهه بالسير أليكس فيرجسون مع مانشيستر يونايتد، لكن الفارق أن نوتنجهام لم يصل إلي المجد سوى مع براين كلوف الذى قادهم للفوز بأغلى ثلاثة ألقابٍ في تاريخ النادى.
البداية كانت من الدرجة الثانية حيث إستغرق كلوف عامين حتى يعود إلي دورى الدرجة الأولى الإنجليزى ليحقق ما يُمكن وصفه بالمعجزة، الفوز بالدورى الإنجليزى 1978 في أول موسم وعلي حساب ليفربول وإيفرتون وأرسنال، وأتبعها بالفوز بكأس المحترفين الإنجليزية ليُعادل رقم أسطورة أرسنال ” هيبرت تشابمان ” بالفوز بالدورى مع فريقين مُختلفين، ولكن كلوف ما يزال يحلم بالبطولة الأوروبية.

فى العام التالى تأهل نوتنجهام إلي بطولة أوروبا 1979 ليواجه ليفربول في الدور الأول، ليفربول حينها كان فريق الأحلام بقيادة الأسطورة ” بوب بيزلى ” وبتواجد لاعبين مثل كينى دالجليش وتومى سميث وجرايم سونيس وغيرهم بالإضافة إلي كوَن ليفربول بطل أوروبا في النسختين الآخيرتين.
تخطى كلوف ليفربول بدون أن يستطيع الريدز تسجيل هدفٍ واحد، حيث فاز نوتنجهام في الذهاب بهدفين دون رد وإنتهى لقاء العودة بالتعادل السلبى، وإستمر في الفوز تلو الآخر حتى وصل إلي نهائى البطولة دون أن يُهزم، وفي النهائى إستطاع نوتنجهام في إحراز اللقب بعد الفوز بهدف وحيد سجله تريفور فرانسيس، الجناح الذى ضمَه كلوف مقابل مليون جنيه إسترليني وهو ما أثار سُخرية الصحافة البريطانية كثيرًا.
لم يتوقف الأمر عند ذلك بل كرر كلوف إنجازه مرة أخرى وحصد البطولة الأوروبية مرة ثانية تواليًأ ولكن هذه البطولة كانت أصعب قليلًا، حيث خسر نوتنجهام علي ملعبه في ربع النهائى أمام دينمو برلين ولكن كلوف ولاعبيه نجحوا في خطف بطاقة العبور من قلب العاصمة الألمانية بعد الفوز بثلاثة أهداف لهدف.
في نصف النهائى كان في إنتظارهم فريق أياكس الهولندى بقيادة القدير ” ليو بينهاكر “، وإستطاع براين كلوف العبور إلى النهائى بعد واحدة من أصعب المواجهات في تاريخ البطولة، بعدما فاز نوتنجهام في إنجلترا بهدفين دون رد قبل أن يخسر في هولندا بهدف وحيد.
في النهائى إصطدم نوتنجهام بالفريق الألمانى هامبورج الذى وصل للنهائى بعد الفوز علي ريال مدريد بخماسية، وأيضًا كان يضم حينها الأسطورة الإنجليزية كيفن كيجان أحد أفضل لاعبى أوروبا في تلك الحقبة، مهمة ليست سهلةً علي الإطلاق.
وإقتنص نوتنجهام فورست اللقب بعد الفوز بهدفٍ وحيد سجله جون روبيرتسون الجناج الإستكتلندى الذى كان أفضل لاعبى نوتنجهام في تلك البطولة رفقة الحارس الإنجليزي بيتر شيلتون.

بعد كل هذا السنوات وعندما تنظر إلي مسيرة كهذه ستصل إلي نتيجة حتمية، أنت أمام مدرب مغرور، عبقرى، مجنون بطبيعة الحال، لكنه إستثنائى، براين كلوف كان أول إستثناء في عالم التدريب الإنجليزى.
ما قدمه كلوف في كرة القدم كان قدرَه الذى وُلد من أجله، الأمر ليس وكأنه يبحث عن معجزات وإنجازات غير مسبوقة ولكنه فقط كان يقوم بالأمر علي طريقته الخاصة، والتى صادف أنها طريقةٌ إستثنائية لم يسبقه إليها أحد من قبل، ولن يستطيع أحدٌ تكرارها في المستقبل.