أُسدِل الستار على منافسات بطولة كأس العالم للسيدات 2023، بتتويج المنتخب الإسباني بطلاً للعالم لأول مرة في تاريخه، بعد الفوز في النهائي على إنجلترا بهدف، لتكتب الإسبانيات تاريخاً جديداً في المونديال المميز الذي أقيم في أستراليا ونيوزيلندا.
بطولة مختلفة امتلأت بتفاصيل جديدة، لن يتم حفظها فقط في كتاب هذه النسخة من البطولة، أو تاريخ مونديال السيدات، وإنما سيمتد أثرها لعالم كرة القدم ككل، سواء على مستوى الكرة النسائية، أو كرة القدم إجمالاً.
متابعة كرة القدم لم تعد محصورة على كرة الرجال التي يتابعها مئات الملايين في العالم، وعلى مدار السنين كانت السخرية والاستخفاف هي السمة السائدة تجاه كرة القدم النسائية، إلا أن الأمر بدأ يختلف على مستوى العالم، وامتد ذلك حتى على مستوى العالم العربي.
الأرقام تؤكد زيادة ذلك الاهتمام، مونديال أستراليا ونيوزيلندا شهد رقماً قياسياً في عدد الحضور الجماهيري بـ1,978,274 مليون متفرج، أي ما يقارب المليونين، منهم 75,784 متفرجاً في ملعب مباراة أستراليا مع جمهورية أيرلندا.
وفي نيوزيلاندا حضر 42,958 متفرجاً لمباراة البرتغال مع الولايات المتحدة، مباراة لم يظهر فيها منتخب البلد المضيف، وبات الحضور الجماهيري هو الأكبر في تاريخ نيوزيلاندا في أي مباراة كرة قدم سواءً على مستوى السيدات أو حتى الرجال.
البطولة كذلك شهدت زيادة الجوائز المالية بشكل ملحوظ، بعدما تم رفع مجموعها إلى 152 مليون دولار، تم تقسيمها بواقع 110 مليون للمنتخبات المختلفة، مع 11.3 مليون يتم منحها للاعبات المشاركات، و30.7 مليون للاستعداد قبل البطولة، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف مجموع الجوائز المالية للنسخة السابقة مباشرة في فرنسا 2019 التي كان مجموع جوائزها 30 مليون دولار، و10 أضعاف نسخة كندا 2015 بمجموع جوائز 15 مليون.
الجوائز التي تم تخصيصها للاعبات أتت لتعويض المشاركات في تلك المنافسة بشكلٍ مناسب عن مساهمتهن وعملهن، بسبب تقارير سابقة أشارت إلى أن الاتحادات الوطنية تحجب أموال الجوائز عن اللاعبات.
ورغم الارتفاع الواضح في مجموع الجوائز المالية، إلا أن مبلغ الـ110 مليون دولار لا يزال ربع مجموع الجوائز المالية الممنوحة في كأس العالم للرجال في قطر 2022، والذي بلغ 440 مليون دولار.
البطولة تم تنظيمها لأول مرة في تاريخ مونديال السيدات في أكثر من دولة، بمشاركة أستراليا ونيوزيلندا في التنظيم، بعدما نُظم الحدث من قبل مرتين في كل من الولايات المتحدة والصين، ومرة في كل من السويد وألمانيا وكندا وفرنسا، ليأتي تنظيم هذه النسخة لأول مرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ولأول مرة في أكثر من اتحاد قاري، إذ تشارك أستراليا في منافسات الاتحاد الآسيوي، وتتواجد نيوزيلندا ضمن اتحاد أوقيانوسيا.
على مستوى كرة القدم فالبطولة عجت بالمفاجآت، إذ ودع المنتخب الألماني البطولة من دور المجموعات، صحبة منتخبات كبيرة ككندا بطلة الأولمبياد والبرازيل وغيرها، ولأول مرة فشل منتخب الولايات المتحدة حامل اللقب والمصنف الأول على العالم وأكثر الفرق تتويجاً بالبطولة، في التأهل لربع النهائي، إذ إنه في أسوأ مشاركاته السابقة وصل لنصف نهائي البطولة، ولكنه هذه المرة ودع المنافسات من الدور الثاني.
منتخب فرنسا خسر في ربع النهائي أمام أستراليا، التي تغلبت كذلك على الدنمارك، وودعت هولندا البطولة على يد إسبانيا، التي أقصت السويد، بعد مشوار متميز للأخيرة تغلبت فيه على الولايات المتحدة، وعلى اليابان التي كانت ربما أفضل فريق في دور المجموعات وتغلبن في مباراة الجولة الثالثة برباعية نظيفة على إسبانيا التي توجت باللقب.
المنتخب الإنجليزي كان يطمح لجمع بطولة العالم ببطولة أمم أوروبا التي توج بلقبها في 2022، إلا أن إسبانيا في ثالث مشاركاتها فقط نجحت في التتويج بأول ألقابها في المونديال.
إسبانيا ظهرت لأول مرة في كأس العالم للسيدات في 2015، وفيه خرجت من دور المجموعات، ثم في 2019 ودعت البطولة من الدور الثاني، ليأتي تأهلها لربع النهائي بمثابة التطور، قبل المفاجأة بالفوز على كل من هولندا والسويد، وحجز مقعد في مواجهة إنجلترا في النهائي.
وفي الوقت الذي توقع فيه الكثير من المتابعين فوز إنجلترا، التي تغلبت على إسبانيا في اليورو قبل عام، إلا أن إسبانيا استطاعت أن تفوز لتصبح أول منتخب سيدات في التاريخ يتوج بطلاً للعالم على مستوى الكبار، وبطولتي كأس العالم تحت 20 عاماً و17 عاماً، اللتين فاز بهما الإسبانيات قبل أقل من عام، كما باتت إسبانيا ثاني منتخب يفوز بكأس العالم على مستوى الرجال والسيدات بعد منتخب ألمانيا.
الهولندية سارينا ويجمان مدربة المنتخب الإنجليزي لازمها سوء الحظ، فبعد خسارة نهائي البطولة في 2019 مع منتخب هولندا، خسرت مع إنجلترا نهائي 2023، وهي الخسارة الأولى لمنتخب إنجلترا مع ويجمان في 30 مباراة، بعد الفوز 25 مرة والتعادل 4 مرات.
ورغم ذلك باتت أول مدربة في التاريخ على مستوى السيدات والرجال على حد سواء، يقود منتخبان مختلفان لنهائي كأس العالم، بأداء جعلها مرشحة لخلافة جاريث ساوثجيت المدير الفني الحالي لمنتخب إنجلترا للرجال، بعد تصريحات مارك بولينجهام الرئيس التنفيذي للاتحاد الإنجليزي لكرة القدم التي قال فيها إن المنصب لا يجب أن يكون مقتصراً على الرجال فقط، وإن الاتحاد الإنجليزي يراقب عمل ويجمان بالفعل مع منتخب السيدات، وجعلها مرشحة لتدريب منتخب الرجال بعد نهاية عقد ساوثجيت الحالي مع منتخب الأسود الثلاثة.
منتخب إسبانيا بات خامس فريق يفوز بكأس العالم للسيدات، بعد الولايات المتحدة المتوجة باللقب في أربع مناسبات، وألمانيا البطلة مرتين، مع فوز واحد لكل من النرويج واليابان، فوزاً لم يكن مفاجئاً فقط بسبب التاريخ المتواضع للفريق في البطولة، ولكن أيضا بسبب الاضطرابات خارج الملعب، بعد رفض 15 لاعبة المشاركة مع المنتخب العام الماضي، مطالبات برحيل المدرب خورخي فيلدا، غابت منهن 12 لاعبة عن المونديال بالفعل، وبقي فيلدا وقاد الفريق للتتويج.
ورغم تسجيل تسع لاعبات مختلفات لأهداف في البطولة من جانب منتخب إسبانيا، لم تكن من بينهن أفضل لاعبة في العالم آخر سنتين أليكسيا بوتياس، التي غابت عن التهديف في كل مباريات منتخب بلدها السبع في كأس العالم 2023، إلا أن لاعبات أخريات تألقن، منهم أيتانا بونماتي التي فازت بجائزة الكرة الذهبية كأفضل لاعبة، مع حصول زميلتها جينيفر هيرموسو على الكرة الفضية كثاني أفضل لاعبة، كما فازت سلمى بارايويلو ذات الـ19 عاماً بجائزة أفضل لاعبة شابة.
فوز إسبانيا سيشجع اللاعبات الإسبانيات على محاولة تكرار الإنجاز، خاصة مع التفوق على مستوى الشابات وجمع مونديال الكبار مع مونديالي تحت 17 و20 عاماً، وإجمالاً فمنتخبات الدول الكبرى في عالم اللعبة سيصبح هناك اهتمام أكبر بها في بلدانها، أيضاً بعد تأهل أستراليا لأول مرة في تاريخها لنصف نهائي البطولة، التي باتت الآن أكبر.
لأول مرة شارك 32 منتخباً في كأس العالم للسيدات، بعدما كانت البداية في 1991 بمشاركة 12 منتخباً فقط، ثم 16 منتخباً في 2015، زادوا لـ24 في نسخة 2019، حتى وصل العدد لـ32 منتخباً في 2023.
زيادة عدد المنتخبات سيساهم أكثر في انتشار اللعبة، خاصة مع المشاركة الأولى لثمانية منتخبات، وهو ربع عدد الفرق المشاركة، وظهور عدد من هذه الفرق بشكل جيد.
الفلبين شاركت في مجموعة صعبة صعد منها سويسرا والنرويج، ولكنها استطاعت تحقيق أول انتصار والذي جاء على حساب منتخب البلد المضيف نيوزيلندا، فيما جاءت مشاركة فيتنام متواضعة، في مجموعة خسرت فيها أمام البرتغال التي ظهرت لأول مرة وجاء على فيتنام فوزها الأول، وتعادلت مع الولايات المتحدة المصنف الأول عالمياً، وخسرت بصعوبة أمام هولندا بهدف.
أيرلندا التي تأسس منتخبها للرجال قبل مائة عام، ظهر منتخبها النسائي لأول مرة في مونديال السيدات في 2023، وشهد تسجيل أول هدف في تاريخه في البطولة، كذلك بنما التي سجلت لأول مرة في الظهور الأول، في المباراة التي خسرتها أمام فرنسا 6-3، في مباراة سجلت فيها كاديدياتو دياني أول هاتريك في تاريخ منتخب فرنسا للسيدات.
هاييتي وإن لم تسجل أي هدف، إلا أنها خسرت بهدف واحد فقط أمام إنجلترا بطلة أوروبا ووصيف المونديال، جاء من ركلة جزاء، وبركلة جزاء أيضاً أمام الصين، وبهدفين أمام الدنمارك، واحد من ركلة جزاء والآخر في الدقيقة العاشرة من الوقت المحتسب بدلاً من الضائع، بعد صمود امتد لثلاث مباريات دون أي هدف في شباكهن من اللعب المفتوح.
منتخب زامبيا خسر أمام اليابان وإسبانيا، ولكنه تغلب على كوستاريكا 3-1 ليحقق أول انتصار في تاريخه بالبطولة، وهو ما حدث مع المغرب الذي ظهر لأول مرة في تاريخ الدول العربية بكأس العالم للسيدات، بعد الفوز على كولومبيا متصدرة المجموعة بهدف، والفوز على كوريا الجنوبية بهدف، رغم الخسارة بسداسية أمام ألمانيا، التي تغلبت عليها كولومبيا في ظل تألق لاعبة ريال مدريد الشابة ليندا كايسيدو.
بدايات مشجعة لعدد من المنتخبات باتوا الآن يرغبون في تكرار المغامرة، مع آلاف اللاعبات في هذه الدول ستصبحن الآن أكثر تعطشاً لمحاولة تكرار الإنجاز، وهو ما سيقوي مفهوم كرة القدم النسائية ككل.
المشاركة المغربية لم تكن مؤثرة فنياً فقط، بتحقيق انتصارين والتأهل للدور الثاني في المونديال، ولكن العالم كله تابع ظهور أول لاعبة محجبة في تاريخ كأس العالم، وهي نهيلة بنزينة، التي باتت محط أنظار الجميع بشكل إيجابي، عكس لورين جيمس شقيقة ريس جيمس لاعب المنتخب الإنجليزي للرجال، والتي لاقت انتقادات كبيرة بعد طردها أمام نيجيريا إثر لقطتها الشهيرة التي تعمدت فيها دهس لاعبة منتخب نيجيريا ميشيل ألوزي.
الرغبة في التواجد في المونديال، والفوز على كوريا الجنوبية وكولومبيا، باتت متواجدة الآن، لدى لاعبات صرن يعرفن أنهن قادرات على التأهل للدور الثاني في كأس العالم، ليس فقط في المغرب، ولكن في كل الدول العربية، إذ بدأت الكرة النسائية تتطور وتأخذ منحنى جدياً، في الفترة الأخيرة.
في مصر الاهتمام بالفرق النسائية بات أكبر، حتى وإن كان إجبارياً، بعد قرار الاتحاد الأفريقي بوضع قانون جديد لا يسمح بمشاركة الأندية في دوري أبطال أفريقيا 2023-24 إلا بعد وجود فريق كرة قدم نسائية بالنادي.
النادي الأهلي أعلن عن إطلاق أول قطاع لكرة القدم النسائية في تاريخه، وهو ما أعلنت عنه كذلك أندية أخرى كبيراميدز وفيوتشر، وأعلنت أندية الزمالك والمقاولون العرب والاتحاد – وكلها أندية عريقة توجت ببطولات على مستوى الرجال – عن المشاركة في منافسات الدوري المصري لكرة القدم للسيدات الموسم المقبل بشكل رسمي.
وقارياً كان وادي دجلة قد نجح في حصد أول لقب أفريقي لفريق كرة نسائية مصري، بعدما توج ببطولة شمال أفريقيا، والتي أهلته للمشاركة الثانية في تاريخه ببطولة أفريقيا للسيدات، فيما ارتفعت حصيلة المحترفات في الخارج إلى أكثر من 18 لاعبة.
في السعودية تسارعت وتيرة التطوير بشكل ملحوظ، إذ إنه وبعدما تم السماح لأول مرة للنساء لحضور مباريات المنتخب في 2012 في بعض أجزاء الملعب، قبل إلغاء القرار في عام 2015، أصبح الأمر طبيعياً بالنسبة لحضورهن في جميع المنافسات مرة أخرى في عام 2018.
والآن أنهت السعودية النسخة الأولى من الدوري الممتاز للكرة النسائية، الذي توجت به سيدات فريق النصر بعد منافسة مع سبعة فرق أخرى أبرزها الهلال والاتحاد، فيما يشارك في دوري الدرجة الأولى 17 نادياً.
وفي مارس 2023 دخل المنتخب السعودي للسيدات قائمة فيفا رسمياً، وذلك بعد عام تقريباً من خوضه أولى مبارياته الرسمية، وهي كلها مؤشرات إيجابية للكرة النسائية السعودية، بعد بخطة استراتيجية بميزانية ضخمة تقدر بقرابة 50 مليون ريال سعودي وفقاً لما أعلنته إدارة كرة القدم النسائية، تهدف لتطوير المسابقات وإنشاء فرق فئات عمرية وغيرها.
"أول تمريرة. أول عرضية. أول تصدي. أول كل شيء" 🇸🇦👊
هنا، بداية مسيرة كرة قدم السيدات في المملكة العربية السعودية“Destined to Play”
قريبًا على +FIFA 📺@saff_wfd @saudiFF pic.twitter.com/udjHClcWrj— كأس العالم FIFA 🏆 (@fifaworldcup_ar) August 18, 2023
المغرب لم يكن نجاحه طفرة، إذ إن البداية الحقيقية تعود لعام 2020، عندما أصبحت الرابطة النسائية الوطنية رابطة محترفة، ليصبح بالتالي الدوري المغربي للسيدات منافسة احترافية، مع الإعلان عن خطة لإقامة بطولة دوري للناشئات تحت 17 عاماً.
وتم رفع الميزانية المخصصة لكرة القدم النسائية في البلاد من حوالي 6 ملايين إلى 65 مليون دولار، مع الاهتمام الحقيقي باستضافة البطولات، إذ نظم المغرب بطولة دوري أبطال أفريقيا لكرة القدم للسيدات 2022، واستطاع الجيش الملكي أن يفوز بالبطولة بعد التغلب على حامل اللقب صن داونز الجنوب أفريقي برباعية نظيفة في النهائي، منها ثلاثة أهداف هاتريك لابتسام جريدي، صاحبة هدف فوز المنتخب المغربي على كوريا الجنوبية في المونديال، بعد احترافها في نادي أهلي جدة السعودي.
تفوق الجيش الملكي تكلل بانضمام سبع لاعبات منهن للمنتخب الوطني خلال كأس العالم، من بينهن قائدة الفريق غزلان شباك، ونهيلة بنزينة أول من تشارك في تاريخ كأس العالم بالحجاب، والمشاركة نفسها في المونديال جاءت بعد الاهتمام أكثر باستضافة الأحداث الكروية النسائية.
المغرب تأهل لكأس العالم من خلال بطولة كأس الأمم الأفريقية التي نظمها خلال العام الماضي على أرضه، وفيها وصل للمباراة النهائية، محققاً الفوز في كل مبارياته بدور المجموعات، ثم تخطى مباراتي الدورين ربع النهائي ونصف النهائي، وهو الذي لم يشارك في البطولة من قبل سوى مرتين في 1998 و2000، فاز فيهما بمباراة واحدة فقط من ست مباريات.
استضافة أمم أفريقيا سمحت بقياس نسبة الاهتمام العربي بكرة القدم النسائية، ولم يخذل الجمهور المغربي لاعباته، وكان حاضراً في كل المباريات بكثافة، وتخطى عدد حضور المباراة النهائية 50 ألف متفرج.
الوطن العربي الآن والعالم ككل بات أكثر اهتماماً بكرة القدم النسائية، ما ينبئ بأن ما حدث في مونديال أستراليا ونيوزيلندا 2023، لن يكون إلا بداية كرة القدم النسائية الحقيقية في العالم، وربما بعد عشرات السنين من الآن سيعود الكل لتذكر نسخة 2023، التي شهدت مشاركة 32 منتخباً، ومشاركة الكثير من الدول لأول مرة وتحطيم العديد من الأرقام القياسية، وأنها كانت بمثابة الإلهام للاعبات أخريات، لتقديم الكثير لرياضة كرة القدم.
اقرأ أيضاً: الكولومبية ليندا كايسيدو.. تهزم السرطان ثم تكتب التاريخ في كأس العالم للسيدات