تحتوى اللغة العربية على كم مهول من المصطلحات والمعاني التي لا حدود لها، ولكن رغم ذلك أجد صعوبة في وصف روجر فيدرير، إنه الرياضي الأفضل على الإطلاق فقط لأنه روجر فيدرير، اسمه فقط هو القادر على التعبير عن مدى عظمته وأفضليته.
يحضرني قول جوزيه ساراماجو في كتابه انقطاعات الموت “جميل؟ هل يمكن وصف الملائكة بالتقوى؟ هل يمكن وصف الآلهة بالقوة؟ هل يمكن وصف الشمس بالسطوع؟ هل يمكن وصفه بالجميل؟ كلا لا يمكنك أنت في حاجة إلى كلمة أقوى من هذه وأعمق وأكثر تأثيرًا، لا تجد أية كلمات للأسف، فتحدق فيه في صمت، صمت طويل”.
“مبالغة؟ آه لو تعلمون ما فاتكم”، نحن هنا لا نتحدث عن روجر الحاصل على 20 بطولة جراند سلام من أصل 31 نهائي خاضه، وثاني أكثر لاعبي التنس تتويجًا بالبطولات في التاريخ برصيد 103 لقب متنوع، حصدهم وهو في ريعان شبابه، وفي فترة تألقه، كذلك في أوقاته العصيبة بين ليالي الإصابات، وفي الثلاثين من عمره وحتى اللحظة الأخيرة وهو على مشارف الأربعينات.
بل نتحدث عن جانب آخر من حياة فيدرير، والذي يتفوق فيه روجر على أي رياضي في التاريخ، الجانب الإنساني.
إنسانيته التي لا حدود لها
منذ أيام قليلة نشرت إحدى الشركات الراعية “Barilla” فيديو لاحد لاعبيها الناشئين رفقة روجر فيدرير.
في بداية الفيديو ظهر الطفل الصغير في لقاء يرجع لخمس سنوات من الآن مع فيدرير يطلب منه أن يستمر في الملاعب لمدة تسع سنوات إضافية ليتمكن من اللعب أمامه حينها.
وجاء الحديث كالتالي:-
الطفل: هل من الممكن أن تستمر في اللعب لمدة 8 أو 9 سنوات إضافية حتى أتمكن من اللعب رفقتك عندما أكبر؟
روجر ضاحكًا: نعم بالطبع
الطفل: هل اعتبره وعدًا؟
روجر: نعم إنه كذلك
بالتأكيد لم يكن يتوقع هذا الطفل أن يتذكره روجر الذي أشرف على الإعتزال بعد كل هذه السنوات خاصة مع المشكلات الأخيرة التي يواجهها السويسري بشأن عودته للملاعب والإصابات.
ولكن هيهات، هذا السويسري دائما قادر على مفاجأة الجميع باهتمامه البالغ بالأطفال وإنسانيته التي لا حدود لها، كذلك كموهبته في ملاعب الكرة الصفراء.
نعود للفيديو مجددا، والذي ظهر فيه الطفل زيزو بعد خمس سنوات في أحد النوادي السويسرية داخل مطعم، قبل أن يتعرف عليه النادل ويناديه باسمه، الأمر الذي أثار حماس ودهشة الشاب كثيرًا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد طلب النادل من اللاعب الشاب أن تلتقط مديرة المطعم معه صورة تذكارية بعد أن أخبره أنها من أشد معجبيه.
لم يصدق الشاب الصغير كل ما يحدث معه، وظهرت عليه علامات السعادة البالغة والدهشة سويًا، في لقطة أكثر من رائعة.
خرجت المديرة لتلتقط الصورة التذكارية رفقة زيزو وهي ترتدي قميص طبع عليه صورته، كان الشاب في تلك اللحظة على بعد لحظات من البكاء فرحًا.
وسط كل تلك الأجواء يتابع روجر فيدرير الحدث من بعيد خلف الكواليس، وظهر سعيدًا للغاية بردود أفعال زيزو من التعجب لفرحة عارمة.
وهنا جاءت اللحظة الهامة عندما وجد زيزو عدد كبير من الجماهير في ملعب تنس معلقين لافتات باسمه وكلمات تشجيعيه له.
اصطحبه النادل للملعب وأخبره أن كل هؤلاء المشجعين هنا من أجل مشاهدته يلعب، ثم خرج فيدرير من خلف الكواليس معانقًا زيزو.
آه يا لها من لحظة لا تصدق، الشاب زيزو أصبح عاجزًا عن النطق، بالتأكيد خُيل له بأنه داخل أحد تلك الأحلام التي يختلقها عقلله الباطنن وبعد قليل سوف يستيقظ ليجد نفسه على فراشه وداخل غرفته ويتبخر كل من حوله.
ولكن هذا لم يحدث، روجر فيدرير بالفعل واقفًا أمامه ماسكًا بمضربه ويستعد لخوض مباراة ضده أمام مئات من المشجعين، وكأنه يلعب في إحدى بطولات الجراند سلام الكبرى.
لقد خاضوا مباراة رائعة وسط تشجيعات الجماهير، وكذلك تشجيعات روجر لزيزو.
روجر أوفى بوعده الذي قدمه لطفل منذ خمس سنوات ماضية، كان من الطبيعي ألا ينسى الطفل وعد روجر، لكن أن يتذكره روجر شخصيًا كانت هذه هل المفاجأة.
لم يكن هذا الحدث الأول الذي يثبت فيه روجر مدى إنسانيته وحبه للأطفال.
روجر فيدرير هو صاحب مؤسسة خيرية في مالاوي غير ربحية والتي ترعى أكثر من مليون طفل في أفريقيا.
بدأها وهو شاب في الـ 21 من عمره، لم يكن في رصيده حينها سوى لقبين جراند سلام فقط، واستمر روجر في التألق وتحطيم الأرقام القياسية وحصد البطولات في الملعب.
بينما استمرت مؤسسته في التوسع حتى نجحت في عام 2019 بالوصول لرعاية مليون طفل في أفريقيا بشراكة مع أكثر من دولة، لتقدم رعاية كاملة، غذاء، ملابس، تعليم، صحة، تنمية مهارات، وترفيه.
أنفقت مؤسسة روجر فيدرير نحو 52 مليون دولار على مبادرات التعليم في أكثر من 7000 مدرسة وتعليم نحو 1.5 مليون طفل.
وفي ظل جائحة كورونا التي مثلت رعبًا للجميع لم يتوقف روجر عن التفكير بهؤؤلاء الأطفال أبدًا وقدم مليون دولار لتزويد 6400 طفل بوجبات الطعام التي يحتاجها.
ويتابع روجر عمل المؤسسه بشكل شخصي ويقوم بزيارات مستمرة لتلك الأطفال بين حينًا واخر، وترافقه عائلته في تلك الزيارات أيضًا، نراه يقوم بنفسه بتعليمهم القراءة وبعض العادات الاجتماعية، وأيضًا اللعب معهم.
حسنًا أخبرني الآن كم عدد الأشخاص والمؤسسات التي يجب أن تتحد لتحقق انجازًا مشابهًا؟ روجر وحده فقط أستطاع فعل ذلك وخلال مسيرته الرياضية ولم يؤثر ذلك عليه ولم يمنعه من تحقيق الانجازات أو من أن يكون أبًا مثاليًا على حد وصف زوجته.
وفي عام 2005 عندما ضرب اعصار كاترينا أمريكا، قام روجر ببيع مضرب التنس الذي فاز به في ببطولة ويمبلدون في مزاد مقابل 40 ألف دولار ومنحهم جميعًا لضحايا الاعصار.
بخلاف المباريات الخيرية التي كان يخوضها لجمع التبرعات مثلما حدث عام 2010 بعد أحداث الزلزال المدمر بهياتي، وخلال جائحة كورونا لجمع أرباح تلك المباريات وإرسالها للمتضررين والمحتاجين.
العائلة تأتي أولًا
في يناير 2021 وتحديدًا قبل انطلاق منافسات بطولة أستراليا المفتوحة للتنس الأرضي أول بطولة جراند سلام في الموسم والتي كان من المقرر أن يعود روجر للملاعب من أبوابها بعد غيابه لمدة عامًا كاملًا عن الملاعب بسبب إجراء عملتين جراحيتين في الركبة، خرج روجر بقرار مفاجأ وصادم لكافة مشجعينه وعشاقه حول العالم.
قال روجر في تصريح لإحدى القنوات “قررت الانسحاب من بطولة أستراليا المفتوحة، كنت أتطلع للعودة للملاعب عن طريق إحدى البطولات الكبرى ولكنني في عمر الـ 39 من عمري وامتلك 20 لقب جراند سلام ولدي 4 أطفال، لا أستطيع الغياب عن عائلتي لمدة 5 أسابيع متواصلة”.
وذلك بسبب فرض منظمي بطولة أستراليا قوانين صارمة على اللاعبين المشاركين في البطولة والتي تنص على دخول اللاعب لحجر صحي لمدة 15 يومًا قبل انطلاق المنافسة، بالإضافة للحجر الصحي المفروض خلال فترة المنافسات والتي تستمر لـ 15 يوم إضافي.
أصبح اللاعبين أمام خيارين لا ثالث لهم إذ أرادوا المشاركة إما الدحول في الحجر الصحي رفقة عائلتهم وهو الأمر الذي كان مستحيلًا بسبب عدم وجود أي استثناءات للخروج من الحجر إلا للاعبين، والحل الأخر هو البعد عن عائلتهم لأكثر من شهر.
حينها قال روجر “لا أتمكن من النوم في السرير بدون زوجتي ميركا، أريدها بجانبي حتى لو اضطرت لتغير الحفاضات للأطفال بين الأشواط، لا اريدا أن تترك الغرفة حتى في ظل بكاء الأطفال”
أيضًا قبل عدة سنوات سئل روجر في إحدى المؤتمرات الصحفية عن موعد اعتزاله فأجاب”لا أريد أن اتخذ قرار الاعتزال قبل أن يراني أطفالي على منصات التتويج”.
وفي عام 2017 تُوج روجر بلقبه الـ 20 في الجراند سلام، ورغم أنه سبق وحصد 19 لقبًا مماثلًا إلا أنها كانت المرة الأولى التي يبكي فيها بهذا القدر، وعنما سئل عن السبب أخبرهم أنهم لم يستطع تمالك نفسه بعدما رأي أطفاله الأربعة في المدرجات وهو يُتوج تحت أنظارهم.
هنا عزيزي نعود لما بدأناه، لماذا هذا الأسطورة السويسرية هو الرياضي الأفضل على الإطلاق؟ لأنه باختصار شديد روجر فيدرير، يمكنك تلقيبه بالمايسترو أو كوكب التنس أو ما شئت من ألقاب، لكن الأكيد أن كل تلك الكلمات الفانية غير قادرة على وصفه.
اقرأ أيضًا
روجر فيدرير.. سطور من مسيرة أسطورة التنس بمناسبة ذكرى ميلاده الـ 41
لمتابعة صفحتنا الرياضة مش كورة وبس عبر تويتر وفيسبوك.